- تفسير القرآن الكريم / ٠1التفسير المختصر
- /
- (023) سورة المؤمنون
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
أيُّها الأخوة الكرام، فالآيات في سورة المؤمنون تتحدَّث عن بعض الأنبياء الصالحين، منهم سيّدنا نوح عليه السلام، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)﴾
أيها الأخوة، كلّ الدَّعوات إلى الله، لا تخرج عن دَعوة إلى التوحيد وعن دَعْوة إلى الطاعة والتَّقْوى، فالعقيدة هي التَّوحيد، والسُّلوك الطاعة قال تعالى:
﴿فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)﴾
قال تعالى:
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)﴾
الآن اسْمعوا أقوال الكفار في كلّ زمان، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
((مِلَّة الكفر واحدة ))
دائِمًا أهل الباطل يَطْرحون هذه القضايا، قال تعالى
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)﴾
لا يوجد عندهم شيءٌ مُقَدَّس وأنا هذا نبيّ يُوحَى إليه ومَعْصوم، ويأتي بالحق، ومنْهَجٍ قَويم، فالكافر لا يعيش النوايا الطيِّبَة ولا يعيشُها، ولا يُصَدِّقُ شيئًا دون هَدَفٍ مادِّي، ولا يُصَدِّق سَعْيًا دون مَكْسَبٍ شَخصي فَحَتَّى الأنبياء عند الكفار، قال تعالى:
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)﴾
لذلك حينما تَجدُ إنسانًا يتَّهِمُ دَعْوَةً والقَصْد جَمْع الناس، والقَصْدُ هذه مِلَّةُ الكُفْر، في كلّ زمانٍ ومكان وقد قال الله عز وجل:
﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)﴾
أوَّ علامة مِن علامات الدُّعاة الصادِقين ؛ لا يُريد شيئًا، لا مادِّيًا ولا مَعْنَوِيًّا ولا مُعَجَّلاً، ولا مُؤَجَّلا، ولا كبيرًا ولا صغيرًا، فهذه أوَّل علامة.
العلامة الثانِيَة ؛ قال تعالى:
﴿ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ(124)﴾
فلا بدّ لِمَن يَجْعَلُهُ الله إمامًا أن يُمْتَحَن بالشَّدائِد فيَصْبِر، وأن يُمْتَحَن في الرَّخاء فَيُنْفِق وأن يُمْتَحن بالضِّيق النَّفسي فيُكابِر.
الآية الثالثة ؛ قال تعالى:
﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا(39)﴾
فَلِمجَرَّد أن يَخشى أحدًا إلا الله، سَيَسْكُت عن الحق، وينطِق بالباطل فإذا سكت عن الحق وتكلَّم بالباطل، ماذا بَقِيَ مِنْ تَبْليغ رِسالات الله ؟! لم يبْقَ شيء !
العلامة الرابعة ؛ قوله تعالى:
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18)﴾
العالم الحقيقيّ يشْهد لك بِكَمال الله تعالى، أما الذي ينقل لك النُّصوص التي يضْرب بعضها بعْضًا، ويقول لك: لا أدري، والله قدَّر على الإنسان المَعْصِيَة، ثمّ يجْعلهُ في جهنَّم إلى الأبد دون ذَنْبٍ من هذا الإنسان ! فهذه دَعْوَة غير صحيحة، وفيها نسْبة ظُلم كبيرة، فالله تعالى قال:
﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18)﴾
شيءٌ آخر، قال تعالى:
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ(24)﴾
فالصَّبْر مِن لوازِم الدَّعْوة إلى الله تعالى.
المِقْياس الخامِس، قال تعالى:
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ(108)﴾
هناك دليل وتعْليل وتَفْسير واضِح، وانْسِجام لكلّ المُعْطَيات والقِيَم فهذه المقاييس التي في الكتاب والسنَّة، والتي تُؤكِّد الدلائل التي يقوم عليها الدُّعاة الصادِقين، قال تعالى:
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)﴾
أيها الأخوة الكِرام لا تسْتَغْرِبوا ؛ البعيد عن الله والذي لا يرْجو رحْمة الله لا يتصوَّر عملاً بِلا هدَفٍ مادِّي، لكنَّ الذي يعرف الله عز وجل لا يتصوَّر عملاً بِهَدَفٍ مادِيّ، بِمَعنى آخر أنَّ الإنسان له اسْتراتيجيَة ؛ فالمؤمن أساس حياتِهِ العَطاء، ويسْعَدُ بالعَطاء، والكافر أساس حياتِهِ الأخذ، قال بعضهم: إذا أردْتَ أن تعرف ما إذا كنتَ مِن أهل الدنيا أم مِن أهل الآخرة ؛ فانْظر إلى الذي يُسْعِدُكَ، هل تأخذ أم تُعْطي ؟ فالمؤمن يُسْعِدُهُ أن يُعْطي مِن وقْتِهِ و مالهِ وخِبْرَتِهِ، فهذا أخٌ مؤمن له محل بسكويت دخل إليه شَخْص مِن أطراف الجزيرة، فقال له: هل تسْتطيع أن تُعَلِّمَني الكاتو ؟ فأدْخَلَهُ المعمل، فطَبَخَ طبْخةً أمامه، وقال له: اُطْبُخ طبْخةً أمامي، يقول لي هذا الأخ صاحِب المعمل: والله مِن ثلاثين سنة إلى الآن ؛ كلّ سنة يأتيني بالهدايا ويقول لي: أنت لك فضْلٌ عليّ !! فالمؤمن أساس حياتِهِ العطاء، مرةً أراد أخ أن يعمل محلّ حلويات فسأل بالبزوريَّة ؛ هل هذا المَعْمَل مُجدي أم لا ؟ فقال لي: كل المَحَلاَّت خَوَّفوني !! إجْماع منهم، فقلتُ له: سوف أبْعثُكَ عند فلان وسَلْهُ، فلمَّا ذهَب إليه قال له هذا الأخ: إنَّ البِضاعة رائِجَة هنا جدًّا !! ورِبْحُها قليل فهذا خالف إجماع هؤلاء لأنَّه مؤمن، لذلك المؤمن حياتُهُ مَبْنِيَّة على العَطاء، والكافر أساس حياتِهِ الاحْتِكار والأسَرَة، فالمؤمن يُعطي والكافِر يأخذ، قال تعالى:
﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)﴾
لا يأخذ مِن الماضي إلا التشبّث بالكُفْر، قال تعالى:
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)﴾
ما قال مِن كُلِّ، وإنَّما قال: مِن كُلٍّ زَوْجين اثنين، فَبَعْضُ المُلْحدين يقولون: هذه السَّفينة لو كان فيها مِن كلّ حَيوان زوْجَين يجب أن يكون طولها مِن هنا إلى أمريكا مثلاً ! فالله ما قال مِن كُلِّ، وإنَّما قال: مِن كُلٍّ زَوْجين اثنين، أي مِن كلّ زوجٍ تَحتاجُهُ، فالفرق التَّنوين، قال تعالى:
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)﴾
صدَر أمر بإغْراقِهِم قال تعالى:
﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)﴾
يرْوون قِصَّة لا أصل لها، ولكن لها مَغزى، وهي أنّ امرأةً مُسِنَّة جاءَت إلى سيِّدنا نوح، وقالتْ: متى الطُّوفان ؟ قال: بعد حين، فقالتْ: لا تنْسَني ! فسيِّدُنا نوحٌ نَسِيَها، ولمَّا ظَهَر الطُّوفان ورَكِب هو وإخوانهُ في السَّفينة، تذَكَّر هذه المرأة، وبعد أن انتهى الطُّوفان جاءَتْهُ وقالتْ: متى الطوفان يا نوح ؟! فقصَدَت أنَّك إن نسيتني فالله تعالى ما نَسِيَني !! قال تعالى:
﴿قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى(52)﴾
لا ينْسى نمْلةً سَمْراء، على صَخْرةٍ صمَّاء، في ليلةٍ ظَلماء، فالله تعالى مطلق، ونحن نِسبيُّون.
قال تعالى:
﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)﴾
فالعِبرة بالنِّهاية.